سورة هود - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (هود)


        


ولما كان الاستثناء من أهله في قوله: {إلا من سبق عليه القول} يجوز أن يراد به امرأته فقط، فتكون نجاة ابنه جائزة، وكان ما عند الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من فرط الشفقة على الخلق لا سيما الأقارب يحملهم على السعي في صلاحهم ما كان لذلك وجه كما تقدم مثل ذلك في قوله تعالى: {إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} [التوبة: 80] لأن أجنحة الخلق كسيرة وأيديهم قصيرة وأمرهم ضعيف وحالهم رث، فأدنى هوان يورثهم الخسران، وأما جناب الحق ففسيح وشأنه عظيم وأمره عليّ، فلا يلحقه نقص بوجه ولا يدانيه ضرر ولا يعتري أمره وهن، لما كان ذلك كذلك، سأل نوح عليه السلام نجاة ولده كما أخبر عنه تعالى في قوله: {ونادى نوح ربه} أي الذي عوده بالإحسان الجزيل، ودل سبحانه بالعطف بالفاء دون أن يأتي بالاستئناف المفسر للنداء على أن ما ذكر هنا من نداء نوح عليه السلام بعض ندائه وأن هذا المذكور مرتب معقب على شيء منه سابق عليه أقربه أن يكون ما أرشده إليه سبحانه في سورة المؤمنين ويشعر به قوله تعالى بعد هذا جواباً له {يا نوح اهبط بسلام منا} فيكون تقدير الكلام قال: رب أنزلني منزلاً مباركاً- وما قدر له من الكلام {فقال} أي عقبة لما حمله على ذلك من رحمة النبوة وشفقة الأبوة وسجية البشر متعرضاً لنفحات الرحمة وعواطف العفو؛ أو الفاء تفصيل لمجمل {نادى} مثل ما في: توضأ فغسل {رب إن ابني} أي الذي غرق {من أهلي} أي وقد أمرتني بحمل أهلي، وذلك الأمر محتمل للإشارة إلى إرادة نجاتهم {وإن وعدك الحق} أي الكامل في نجاتهم إلا من سبق عليه القول، وقد علمت ذلك في المرأة الكافرة {وأنت أحكم الحاكمين} لأنك أعلمهم، ومن كان أعلم كان أحكم فتعلم أن قولك {إلا من سبق عليه القول} يصح باستثنائها وحدها، فإن كان ابني ممن نجا فأتني به؛ وإن كان هذا الدعاء عند حيلولة الموج بينهما فالمعنى: فلا تهلكه {قال يا نوح} وأكد في نفي ما تقدم منه إثباته فقال: {إنه ليس من أهلك} أي المحكوم بنجاتهم لإيمانهم وكفره، ولهذا علل بقوله: {إنه عمل} أي ذو عمل، ولكنه جعله نفس العمل في قراءة الجماعة مبالغة في ذمه، وذلك لأن الجواهر متساوية الأقدام في نفس الوجود لا تشرف إلا بآثارها، فبين أنه ليس فيه أثر صالح أصلاً، ويثبت قراءة يعقوب والكسائي بالفعل أن من باشر السوء مطلق مباشرة وجبت البراءة منه، ولا سيما للأمر فلا يواصل إلا بإذن، وعبر بالعمل دون الفعل لزعمه أن أعماله مبنية على العلم، وأكده لما لا يخص من سؤال نوح عليه السلام هذا {غير صالح} بعلمي، وقد حكمت في هذا الأمر أني لا أنجي منه إلا من اتصف بالصلاح وأنا عليم بذات الصدور، وأنت يخفي عليك كثير من الأمور فربما ظننت الإيمان بمن ليس بؤمن لبنائك الأمر على ما نراه من ظاهره؛ وقد نقل الرماني عن الحسن أنه كان ينافق بإظهار الإيمان، وهذا يدل على أن الموافق في الدين ألصق ما يكون وإن كان في غاية البعد في النسب، والمخالف فيه أبعد ما يكون وإن كان في غاية القرب في النسب.
ولما تسبب عن هذا الجواب أن ترك السؤال كان أولى، ذكر أمراً كلياً يندرج فيه فقال: {فلا تسألن} أي بنوع من أنواع السؤال {ما ليس لك به علم} فلا تعلم أصواب السؤال فيه أم لا، لأن اللائق بأمثالك من أولى القرب بناء أمورهم على التحقيق وانتظار الإعلام منا، انظر إلى قول موسى عليه السلام في حديث الشفاعة في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «وإني قد قتلت نفساً لم أومر بقتلها» ومن المعلوم أن تلك النفس كانت كافرة من آل فرعون {إني أعظك} بمواعظي كراهية {أن تكون} أي كوناً تتخلق به {من الجاهلين} أي في عداد الذين يعملون بالظن لأنهم لا سبيل لهم إلى الوقوف على حقائق الأمور من قبلنا فتسأل مثل ما يسألون.
ولما انجلى للسامع ما هو فيه صلى الله عليه وسلم من علو المقام وعظيم الشأن الموجب للعقاب على كثير من الصواب فتشوف للجواب، استأنف بيانه بقوله: {قال} أي مبادراً على ما يقتضيه له من كمال الصفات {رب} أي أيها المحسن إليّ، وأكد دلالة للسامعين على عظيم رغبته فقال: {إني أعوذ بك أن} أي من أن {أسألك} أي في شيء من الأشياء {ما ليس لي به علم} تأدباً بإذنك واتعاظاً بموعظتك وارتقاء لما رقيتني إليه من علو الدرجة ورفيع المنزلة {وإلا تغفر لي} أي الآن وفي المستقبل {وترحمني} أي تستر زلاتي وتمحها وتكرمني {أكن من الخاسرين} أي العريقين في الخسارة فكأنه قيل: ماذا أجيب عن ذلك؟ فقيل: {قيل} بالبناء للمفعول دلالة على العظمة والجلال الذي تكون الأمور العظيمة لأجله بأدنى إشارة {يا نوح اهبط} أي من السفينة {بسلام} أي عظيم {منا} أي ومن سلمنا عليه فلا هلك يلحقه {وبركات} أي خيرات نامية عظيمة صالحة {عليك} أي خاصة بك {وعلى أمم} ناشئة {ممن معك} لكونهم على ما يرضينا ولا نمتعهم بالدنيا إلا قليلاً، ولهم إذا رجعوا إلينا نعيم مقيم، وقد دخل في هذا الكلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة {وأمم} أي منهم {سنمتعهم} في الدنيا بالسعة في الرزق والخفض في العيش على وفق علمنا وإرادتنا ولا بركات عليهم منا ولا سلام، فالآية من الاحتباك: ذكر البركات والسلام أولاً دليلاً على نفيهما ثانياً، والمتاع ثانياً، دليلاً على حذفه أولاً {ثم يمسهم منا} أي في الدارين أو في الآخرة أو فيهما {عذاب أليم} لجريهم على غير هدينا وجرأتهم على ما يسخطنا، ويجوز أن يكون {وأمم} مبتدأ من غير تقدير صفة محذوفة، فيكون المسوغ للابتداء كون المقام مقام التفضيل؛ والعياذ: طلب النجاة بما يمنع من الشر؛ والبركة: ثبوت الخير بنمائه حالاً بعد حال، وأصله الثبوت، ومنه البروك والبركة لثبوت الماء فيها.
ذكر قصة نوح عليه السلام من التوراة وهو نوح بن لمك بن متوشلح بن خنوخ بن يارد بن مهلاليل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم عليه السلام، وذلك لأنه في أوائل السفر الأول منها: وإن آدم طاف نحو حليلته فحبلت وولدت ابناً فسماه شيث وقال: الآن أخلف الله عليّ نسلاً آخر بدل هابيل الذي قتله قابيل، وذلك بعد أن عاش آدم مائة وثلاثين سنة، وكان جميع حياة آدم تسعمائة وثلاثين سنة، وعاش شيث مائة وخمس سنين فولد له أنوش، وكان جميع حياة شيث تسعمائة واثنتي عشرة سنة، فعاش أتوش تسعين سنة فولد له قينان وكان جيمع حياة أنوش تسعمائة وخمس سنة، وعاش قينان سبعين سنة فولد له مهلاليل وكان جميع حياة قينان تسعمائة وعشرين سنة، وعاش مهلاليل خمساً وستين سنة فولد له يارد وكانت مائة واثنتين وستين سنة فولد به خنوخ فكانت جميع حياة يارد تسعمائة واثنتين وستين سنة، وعاش خنوخ خمساً وستين سنة فولد له متوشلح وكانت جميع حياة خنوخ ثلاثمائة وخمساً وستين سنة، وعاش متوشلح مائة وسبعاً وثمانين سنة فولد له لمك وكانت جميع حياة متوشلح تسعمائة وتسعاً وستين سنة، وعاش لمك مائة واثنتين وثمانين سنة فولد له ابن فسماه نوحاً، ثم قال: هذا يريحنا من أعمالنا، وكد أيدينا في الأرض التي قد لعنها الله، وكانت جميع أيام حياة لمك سبعمائة وسبعاً وسبعين سنة، وتوفي ونوح ابن خمسمائة سنة. فولد لنوح بنون: سام وحام ويافث، فلما بدأ الناس أن يكثروا على وجه الأرض وولد لهم البنات نظر بنو الأشارف منهم بنات العامة حساناً جداً فأخذوا منهم النساء على ما اختاروا وأحبوا، فقال الله عند ذلك: لا تحل عنايتي وشفتي على هؤلاء الناس لأنهم يتبعون أهواء الجسد واللحم وكانت على الأرض جبابرة في تلك الأيام ومن بعدها، لأن بني الأشراف دخلوا على بنات العامة فولد لهم جبابرة مذكورون، فرأى الرب أن شر الناس قد كثر على الأرض هوئ فكرهم وحقدهم ردئ في جميع الأيام، فقال الرب: أمحق الذين خلقت وأبيدهم عن جديد الأرض من الناس والبهائم حتى الهوام وطير السماء؛ وظفر نوح من الله برحمة ورأفة، وكان نوح رجلاً باراً تقياً في حقبه فأرضى الله، وفسدت الأرض بين يدي الله وامتلأت إثماً وفجوراً، فرأى الرب الإله أن الأرض قد فسدت وقال الله لنوح: قد وصل إلى أمر جميع الناس وسوء أعمالهم لأن الأرض قد امتلأت إثماً وفجوراً بسوء سيرتهم.
فهأنذا مفسدهم مع الأرض فاتخذ لك أنت تابوتاً مربعاً من خشب الساج- وفي نسخة: الشمشار- وأجعل في التابوت علالي. واطلها بالقار من داخلها وخارجها، وليكن طول الفلك ثلاثمائة ذراع. وعرضه خمسين ذراعاً، وسمكه ثلاثين ذراعاً، واجعل في التابوت كوى وليكن عرضها من أعلاها ذراعاً واحداً، واجعل باب الفلك في جانبه، واجعل فيه منازل أسفل وأوساط وعلالي. وها أنذا محدر ماء الطوفان على الأرض لأفسد به كل ذي لحم فيه نسمة الحياة من تحت السماء، ويبيد كل ما على الأرض، وأثبت عهدي بيني وبينك. وتدخل التابوت أنت وبنوك وامرأتك ونساء بنيك معك، ومن كل حي من ذوي اللحوم من كل صنف اثنان لتحيى معك، ولتكن ذكوراً وإناثاً، من كل الطيور كأجناسها. ومن الأنعام لأصنافها، ومن كل الهوام التي تدب على الأرض لجواهرها، اثنين اثنين أدخل معك من كلها لتستحييها ذكراً وانثى، واجعل من كل ما يؤكل فاخزنه معك، وليكن مأكلك ومأكلها؛ فصنع نوح كل شيء كما أمر الله ثم قال الله لنوح: ادخل أنت وكل أهل بيتك إلى التابوت لأني إياك وجدت باراً تقياً في هذا الحقب، ومن كل الأنعام الزكية أدخل معك سبعة سبعة من الذكور والإناث، ومن الأنعام التي ليست بزكية أدخل معك اثنين ذكوراً وإناثاً. ومن الطير الزكي سبعة سبعة ذكوراً وإناثاً، ومن الطير الذي ليس بزكي اثنين اثنين ذكوراً وإناثاً، ليحي منها نسل على وجه الأرض، لأني من الآن إلى سبعة أيام أهبط القطر على وجه الأرض أربعين يوماً ولياليها، وأبيد كل ما خلقت على وجه الأرض؛ فصنع نوح كما أمره الرب الإله. فلما كان بعد بعد ذلك بسبعة ايام نزلت مياه الطوفان، تفجرت مياه الغمر وتفتحت مثاعب السماء. وأقبلت الأمطار على وجه الأرض أربعين نهاراً وأربعين ليلة، وفي هذا اليوم دخل نوح وسام وحام ويافث بنو نوح وامرأة نوح ونساء بنيه الثلاث معه الفلك هم وجميع السباع لأجناسها وجميع الدواب لأصنافها وكل حشرة تدب على الأرض بجواهرها وجميع الطيور لأجناسها، ودخل مع نوح التابوت منكل عصفور ومن كل ذي جناحين اثنان اثنان، ومن كل ذي لحم فيه روح الحياة وكل شيء دخل من ذوي اللحوم دخلوا ذكوراً وإناثاً كما أمر الله نوحاً، ثم أغلق الله الرب الباب عليه، وكان الطوفان على الأرض أربعين يوماً وأربعين ليلة، وكثرت المياه حتى احتملت التابوت فارتفع عن الأرض، وعزرت المياه وكثرت على الأرض جداً وجعل التابوت يسير على وجه الماء واشتدت المياه على وجه الأرض جداً جداً.
وتوارت جميع الجبال العالية الشاهقة التي تحت السماء، وارتفعت المياة من فوق كل جبل خمسة عشر ذراعاً، وباد كل ذي لحم على الأرض من الطيور أجمع والسباع والدواب وجميع الحشرة التي تدب على الأرض وجميع الناس والبهائم، ومات كل شيء كان فيه نسمة الحياة مما في اليبس. وبقي نوح ومن معه في الفلك، واشتدت المياه على الأرض مائة وخمسين يوماً؛ وإن الله ذكر نوحاً وكل السباع والدواب وجميع الطيور التي معه في التابوت. فأهاج الله ريحاً على وجه الأرض فسكنت المياه والأمطار. واشتدت ينابيع الغمر وميازيب وغاضت المياه بعد مائة وخمسين يوماً، وسكن التابوت ووقف في الشهر السابع لثلاث عشرة ليلة بقيت من الشهر على جبال قودي وجعلت المياه تنصرف وتنتقص إلى الشهر العاشر، وظهرت رؤوس الجبال في أول يوم الشهر العاشر، فلما كان بعد ذلك بأربعين يوماً فتح نوح الكوة التي عملها في التابوت فأرسل الغراب، فخرج الغراب من عنده فلم يعد إليه حتى يبست المياه عن وجه الأرض، ثم أرسل الحمامة من بعده ليرى هل قلت المياه عن وجه الأرض فلم تجد الحمامة موضعاً لموطئ رجليها فرجعت إلى التابوت لأن المياه كانت بعد على وجه الأرض، فمد يده فأخذها وأدخلها إليه وانتظر سبعة أيام أخرى، ثم عاد فأرسل الحمامة فعادت عند المساء وفي منقارها ورقة زيتون، فعلم أن الماء قد غاض عن وجه الأرض فصبر أيضاً سبعة أيام أخر، ثم أرسل الحمامة فلم تعد إليه أيضاً، ففتح نوح باب الفلك فرأى فإذا وجه الأرض قد ظهر وجفت الأرض. فكلم الرب الإله نوحاً وقال له: اخرج من التابوت أنت وامرأتك وبنوك ونساء بنيك معك وكل السباع التي معك من كل ذي لحم والطيور والدواب، وأخرج كل الهوام التي تدب على الأرض معك، ولتتولد وتنمو في الأرض وتكثر وتزداد على الأرض. فخرج نوح ومن ذكر وبنى للرب مذبحاً وأخذ من جميع الدواب والطيور الزكية فأصعد منها على المذبح قرباناً للرب الإله، فقال الرب الإله: لا أعود ألعن الأرض أبداً من أجل أعمال الناس لأن هوى قلب الإنسان وحقده رديء منذ صباه ولا أعود أيضاً أبيد كل حي كما فعلت، ومن الآن جميع أيام الأرض يكون فيها الزرع والحصاد والبرد والحر والقيظ والشتاء، فبارك الله على نوح وبنيه وقال لهم: انموا واكثروا واملؤوا الأرض، وليغش رعبكم وخوفكم جميع السباع وبهائم الأرض وكل طيور السماء وكل دابة تدب على الأرض، وجميع حيتان البحور تكون تحت أيديكم، وكل الدواب الطاهرة الحية تكون لأكلكم، وقد جعلت الأشياء كلها حلالاً لكم مثل عشب البرية خضرها، وأما المخنوق الذي دمه فيه فلا تأكلوه فإن دمع نفسه، وأما دماؤكم من أنفسكم فأطلبها بالنهي من يد جميع الحيوان ومن يد جميع الناس، أي إنسان قتل أخاه طالبته بدمه، ومن سفك دم الإنسان سفك دمه لأن الله خلق آدم بصورته، وأنتم فانموا واكثروا وولدوا في الأرض وأكثروا فيها؛ وقال الله لنوح ولبنيه معه: هأنذا مثبت عهدي بيني وبينكم ومع أنسالكم من بعدهم ومع كل نفس حية منكم، ومع الطيور والدواب ومع كل سباع الأرض جميع الذين خرجوا من الفلك.
وأثبت عهدي بيني وبينكم فلا يبيد كل ذي لحم أيضاً بماء الطوفان ولا يهبط الطوفان أيضاً ليفسد جميع الأرض، قال الله لنوح: هذه علامة لعهدي الذي أجعله بيني وبينكم وبين كل نفس حية معكم في جميع أحقاب العالم، قد أظهرت قوسي في السحاب فهي أمارة ذكر العهد الذي بيني وبينك وبين أهل الأرض، فإذا أنشأت السحاب في الأرض وأظهرت قوس السحاب فاذكروا العهد الذي بيني وبينكم، وكان بنو نوح الذين خرجوا معه من التابوت سام وحام ويافث، وحاتم يكنى أبا كنعان، هؤلاء الثلاثة ثم بنو نوح، وتفرق الناس من هؤلاء في الأرض كلها؛ ثم ذكر أن نوحاً عليه السلام نام فرأى حام عريه فأظهر ذلك لأخويه، فتناول سام ويافث رداء فألقياه على أكتافهما ثم سعيا على أعقابهما مدبرين فواريا عرى أبيهما، فلما علم نوح ما صنع ابنه الأصغر دعا عليه أن يكون عبداً لأخويه، وكانت جميع أيام حياة نوح تسعمائة سنة وخمسين سنة، ثم توفي عليه الصلاة والسلام والتحية والإكرام؛ ثم ذكر أن الناس بعده أرادوا أن يبنوا صرحاً لاحقاً بالسماء، واجتمع جميعهم على ذلك لأن لغتهم كانت واحدة ورأيهم واحد ففرق الله ألسنتهم وفرقهم من هنالك على وجه الأرض ولم يبنوا القرية التي هموا بها، ولذلك سميت بابل وبوبال معناه بالعبراني: الشتات، وما في تفسير البغوي وغيره من أن عوج ابن عوق- بضمهما كما في القاموس- كان في زمن نوح وسلم من الطوفان، وأن الماء لم يجاوز ركبتيه ونحو هذا كذب بحت منابذ لقوله تعالى: {ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون} [هود: 27] وقوله: {لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم} وقوله: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً} [نوح: 26] ونحوها، فإن كل من ذكر ذلك ذكر أن موسى عليه السلام قتله كافراً.


ولما تمت هذه القصة علىلنحو الوافي ببيان اجتهاد نوح علبه السلام في إبلاغ الإنذار من غير مراعاة إقبال ولا إدبار، وكانت مع ذلك دالة على علم تام واطلاع على دقائق لا سبيل إليها إلا من جهة الملك العلام، فهي على إزالة اللبس عن أمره صلى الله عليه وسلم أوضح من الشمس، قال تعالى منبهاً على ذلك: {تلك} أي هذه الأنباء البديعة الشأن الغريبة الأمر البعيدة عن طوق المعارض، العلية الرتب عن يد المتناول {من أنباء الغيب} أي أخباره العظيمة، ثم أشار إلى أنه لا يزال يجدد له أمثالها بالمضارع في قوله: {نوحيها إليك} فكأنه قيل: إن بعض أهل الكتاب يعلم بعض تفاصيلها، فأشار إلى أن ذلك مجموعة غيب وبما يعلمونه غيب نسبي بقوله: {ما كنت تعلمها} أي على هذا التفصيل {أنت} ولما كان خفاءها عن قومه دليلاً على خفائها عنه لأنه لم يخالط غيرهم قال: {ولا قومك} أي وإن كانوا أهل قوة في القيام على ما يحاولونه وعدداً كثيراً، ومنهم من يكتب ويخالط العلماء.
ولما كان زمان خفاء ذلك عنهم- وإن كان عاماً لهم- بعض الزمان الماضي، أدخل الجار فقال: {من قبل هذا} أي من إيحائي إليك حتى يطرق الوهم حينئذ أنك تعلمتها من أحد منهم وإن كان يعلم كثيراً منها أهل الكتاب كما رأيت عن نص التوراة فبان أن لا عرض لقومك إلا العناد {فاصبر} على ذلك ولا تفتر عن الإنذار فستكون لك العاقبة كما كانت لنوح لأجل تقواه {إن العاقبة} أي آخر الأمر من الفوز والنصر والسعادة {للمتقين} أي العريقين في مخافة الله في كل زمن، وقد تضمنت القصة البيان عما يوجبه حال أهل الخير والإيمان وأهل الشر والطغيان من الاعتبار بالنبأ عن الفريقين ليجتبي حال هؤلاء ويتقي حال أولئك لسوء العاقبة في الدنيا والآخرة.
ولما تم من ذلك ما هو كفيل بغرض السورة، وختم بأن العاقبة دائماً للمتقين، أتبع بالدليل على ذلك من قصص الأنبياء مع الوفاء بما سيقت له قصة نوح- على جميعهم السلام- من الحث على المجاهرة بالإنذار فقال تعالى: {وإلى} أي ولقد ارسلنا إلى {عاد أخاهم} وبينه فقال: {هوداً} ولما تقدم أمر نوح مع قومه، استشرف السامع إلى معرفة ما قال هود عليه السلام هل هو مثل قوله أو لا؟ فاستأنف الجواب بقوله: {قال يا قوم} الذين هم أعز الناس لدي {اعبدوا الله} أي ذا الجلال والإكرام وحده؛ ثم صرح وعلل فقال: {ما لكم} وأغرق في النفي فقال: {من إله} أي معبود بحق {غيره} فدعا إلى أصل الدين كما هو دأب سائر النبين والمرسلين؛ ثم ختم ذلك بمواجهتهم بما يسوءهم من الحق وما ثناه عن ذلك رجاء ولا خوف فقال: {إن} أي ما {أنتم إلا مفترون} أي متعمدون الكذب على الله في إشراككم به سبحانه لأن ما على التوحيد من أدلة العقل غير خاف على عاقل فكيف مع تنبيه النقل! وذلك مكذب لمن أشرك، أي فاحذروا عقوبة المفتري؛ ثم نفى أن يكون له في ذلك غرض غير نصحهم بقوله موضع «إني ناصح لكم بهذا الأمر فلا يسوءكم مواجهتي لكم فيه بما تكرهون» {يا قوم} مكرراً لاستعطاف {لا أسألكم} أي في المستقبل كما لم أسالكم في الماضي {عليه} أي على هذا الإنذار {أجراً} أي فلست موضع تهمة {إن} أي ما؛ {أجري} ثم وصف من توكل عليه سبحانه بما يدل على الكفاية فعليّ وجوب شكره فقال: {إلا على الذي فطرني} أي أبتدأ خلقي ولم يشاركه فيّ أحد فهو الغني المطلق لا أوجه رغبتي إلى غيره كما يجب على كل أحد لكونه فطرة.
ولما كان الخلاف الذي لا حظ فيه جهة الدنيا لا يحتاج الإنسان في الدلالة على أن صاحبه ملجأ إليه من جهة الله، وأنه لا نجاة إلا به إلى غير العقل، سبب عن قوله هذا الإنكار عليهم في قوله: {أفلا تعقلون}.
ولما دعاهم مشيراً إلى ترهيبهم مستدلاً على الصدق بنفي الغرض، رغبهم في إدامة الخوف مما مضى بقوله: {ويا قوم} ومن هم أعز الناس عليّ ولهم قدرة على ما طلب منهم {استغفروا ربكم} أي اطلبوا غفرانه بطاعتكم له لما يجب له بإحسانه إليكم. وأشار إلى علو رتبة التوبة بأداة التراخي فقال: {ثم توبوا إليه} أي تسموا عالي هذه الرتبة بأن تطلبوا ستر الله لذنوبكم ثم ترجعوا إلى طاعته بالندم والإقلاع والاستمرار {يرسل السماء} أي الماء النازل منها أو السحاب بالماء {عليكم مدراراً} أي هاطلة بمطر غزير متتابع {ويزدكم قوة} أي عظيمة مجموعة {إلى قوتكم} ثم عطف على قوله: {استغفروا} قوله: {ولا تتولوا} أي تكلفوا أنفسكم غير ما جبلت عليه من سلامة الانقياد فتبالغوا في الإعراض- بما أشار إليه إثبات التاء {مجرمين} أي قاطعين لأنفسكم- ببناء أمركم على الظنون الفاسدة عن خيرات الدنيا والآخرة.


ولما محّض لهم النصح على غاية البيان، ما كان جوابهم إلا أن {قالوا} أي عاد بعد أن أظهر لهم هود عليه السلام من المعجزات ما مثله آمن عليه البشر {يا هود} نادوه باسمه غلظة وجفاء {ما جئتنا ببينة} فأوضحوا لكل ذي لب أنهم مكابرون لقويم العقل وصريح النقل، فهم مفترون كما كان العرب يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أتاهم من الآيات على يده ما يفوت الحصر {لولا أنزل عليه آية من ربه} {وما نحن} وأغرقوا في النفي فقالوا: {بتاركي آلهتنا} مجاوزين لها أو صادرين {عن قولك} وتركهم للعطف بالفاء- المؤذنة بأن الأول سبب الثاني أي الواو في قولهم: {وما نحن لك} أي خاصة، وأغرقوا في التفي فقالوا: {بمؤمنين} دليل على أنهم تركوا إتباعه عناداً، لا أنهم يعتقدون أنه لم يأت ببينة؛ وإلى ذلك يرشد أيضاً تعبيرهم بالاسمية التي تدل على الثبات فإذا نفي لم ينتف الأصل؛ والبينة: الحجة الواضحة في الفصل بين الحق والباطل، والبيان: فصل المعنى من غيره حتى يظهر للنفس محرراً مما سواه، والحامل على ترك البينة بعد ظهورها صد الشبهة عنها أو تقليد الرؤساء في دفعها واتهام موردها أو اعتقاد أصول فاسدة تدعو إلى جحدها أو العناد للحسد ونحوه، والجامع له كله وجود الشبهة.
ولما قالوا هذا الكلام البين الفساد من غير تعرض لنقض ما قال لهم بنوع شبهة، كان كأنه قيل لهم: هذا الذي قلته لكم وهو لا أبين منه ولا أعدل، افرضوا أنه ما ظهر لكم صحته فما تقولون إنه حملني عليه مع أن فيه منابذتكم وأنتم أولاد عمي وأعز الناس عليّ؟ فقالوا: {إن نقول إلا اعتراك} أي أصابك وغشيك غشياناً التصق بك التصاق العروة بما هي فيه مع التعمد والقوة {بعض آلهتنا بسوء} من نحو الجنون والخبال فذاك الحامل لك على النهي عن عبادتها.
ولما كان الطبع البشري قاضياً بأن الإنسان يخشى ممن مسه بسوء وهو يتوهم أنه قادر على ضرره فلا يواجهه بما يكره، وكان قولهم محركاً للسامع إلى الاستعلام عن حوابه لهم، استأنف سبحانه الإخبار عنه بقوله: {قال} نافياً لما قالوا مبيناً أن آلهتهم لا شيء ضاماً لهم معها، وأكد لأنهم بحيث لا يظنون أن أحداً لا يقول ما قاله {إني أشهد الله} أي الملك الأعظم ليقوم عذري عنده وعدل أدباً مع الله عن أن يقول: وأشهدكم- لئلا يتوهم تسوية- إلى صيغة الأمر تهاوناً بهم فقال: {واشهدوا} أي أنتم لتقويم الحجة عليكم لأيكم ويبين عجزكم ويعرف كل أحد أنكم بحيث يتهاون بكم وبدينكم ولا يبالي بكم ولا به {أني بريء مما تشركون} وبين سفولها بقوله: {من دونه} كائناً ما كان ومن كان، فكيف إذا لم يكن إلا جماداً {فكيدوني} حال كونكم {جميعاً} أي فرادى إن شئتم أو مجتمعين أنتم وآلهتكم.
ولما كانت المعاجلة في الحرب أهول، وكان شأنها أصعب وأخطر، بين عظمها بأداة التراخي فقال: {ثم لا تنظرون} والكيد: طلب الغيظ بالسر في مكر، وهذه الآية من أعلام النبوة الواضحة لهود عليه السلام، فكأنه قيل: هب أن آلهتنا لا شيء، فما حملك على الاجتراء على مخالفتنا نحن وأنت كثرتنا وقوتنا وأنت لا تزيد على أن تكون واحداً منا فقال: {إني} أي جسرت على ذلك لأني {توكلت} معتمداً {على الله} الملك المرهوب عقابه الذي لا ملك سواه ولا رب غيره؛ وبين إحاطة ملكه بقوله: {ربي وربكم} أي الذي أوجدنا ودبر أمورنا قبل أن يخلقنا فعلم ما يعمل كل منا في حق الآخرة لأنه {ما من دابة} أي صغرت أو كبرت {إلا هو آخذ} أي أخذ قهر وغلبة {بناصيتها} أي قادر عليها، وقد صار الأخذ بالناصية عرفاً في القدرة، لأن الكل جارون مع مراده لا مع مرادهم بل لا ينفك أحد عن كراهة لبعض ما هو فيه فدل ذلك قطعاً على أنه بغير مراده وإنما هو بمراد قاهر قهره على ذلك وهو الملك الأعلى سبحانه؛ والناصية: شعر مقدم الرأس، ومن أخذ بناصيته فقد انقاد لأخذه لا يستطيع ميلاً {إن} أي لأن {ربي} أي المحسن إليّ بما أقامني فيه {على صراط} أي طريق واسع بين {مستقيم} ظاهر أمره لكل أحد لا لبس فيه أصلاً ولا خلل ولا اضطراب ولا اعوجاج بوجه، فلذلك كان كل من في الكون يتألهه ويدعو ويخافه ويرجوه وإن اتخذ بعضهم من دونه شركاء، وأما ما يعبد من دونه فلا يعظمه إلا عابده، وأما غير عابده فإنه لا يقيم له وزناً؛ فصح بهذا غالب على كل شيء غلبة يعلمها كل موجود من غير خفاء أصلاً، فهو مرجو مرهوب بإجماع العقلاء بخلاف معبوداتكم، والحاصل أنه يلزم الصراط المستقيم الظهور، فيلزم عدم الاختلاف لانتفاء اللبس، فمن كان عليه كان عليّ القدر شهير الأمر، بصيراً بما يريد، مع الثبات والتمكن، مرهوب العاقبة، مقصوداً بالاتباع والمحبة، من لم يقبل إليه ضل، ومن أعرض عنه أخذ لكثرة أعوانه وعز سلطانه، فظهرت قدرته على عصمة من يتوكل عليه وعجز معبوداتهم معهم، لأن نواصي الكل بيده وهو ربها وربهم ورب كل شيء، فقد انطبق ختام الآية على قولهم {ما جئتنا ببينة} رداً له لأن من كان على صراط مستقيم لم يكن شيء أبين من أمره، وعلى جوابه في توكله وما في حيزه أتم انطباق؛ والناصية: مقدم الشعر من الرأس، وأصلها الاتصال من قولهم: مفازة تناصي مفازة- إذا كانت متصلة بها.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8